Uncategorized

حاجزٌ عكسيٌّ! “قصَّةٌ فلسفيةٌ قصيرة”


,,

ذات يوم شتويٍّ عاصفٍ، وبينما كان الزَّميلان والصَّديقان؛ عدنان ومصطفى، يسيران في طريقٍ التفافيٍّ ضيِّقٍ، مُتَّجهانِ إلى مقر عملهما الذي يبعد بضعَ مئاتٍ من الأمتار عن ذلك الشارع، بعد أن غمرت مياهُ الأمطار كافة الطُّرق – عدا ذلك الطَّريق – المؤدية إلى مكان عملهما، فوجئا بوجودِ شجرةٍ كبيرةٍ جداً، اقتلعتها العواصف وألقتها وسط ذلك الطريق، قرب مصنعٍ قديمٍ مهجور. كانت الشجرةُ التي مالت على أحدِ جدران ذلك المصنع تسدُّ الطريقَ أمامها، وقد شكَّلت – بحجمها الضخم وكثافة أوراقها وأغصانها – حاجزاً مرتفعاً منعهما من إكمال طريقهما للعمل.

نظرَ كلٌّ منهما إلى الآخر، ثمَّ تساءل “عدنان”:

– ما العمل الآن؟!
– لا أدري، ولكن أعتقدُ أنه لا مجال للمرور من هنا!
– ماذا سنفعلُ إذن؟
– فلنعُد أدراجنا، ولا داعي لأن نرهق أنفسنا بالتفكير في كيفية الوصول إلى العمل!

صمتَ عدنان ولم يجب بكلمة، أما مصطفى فقد ودَّعهُ وقفل عائداً إلى منزلهِ. نظرَ عدنان إلى الشجرة، فرك يديهِ، ثم بدأ بتسلقها حتى وصل إلى أقصى ارتفاعٍ بها، وقفَ مكانهُ، أخذَ نفساً عميقاً ممزوجاً برذاذٍ شتويٍّ نقيٍّ، نظرَ جهة زميلهِ الذي أخذ بالاختفاء في نهاية الطريق، ابتسمَ، أمسكَ بهاتفهِ النقَّال، التقط صورة “سيلفي” له يظهر بها في الخلفية ذلك المصنع المهجور، ثم نزل إلى الجانب الآخر من الطريق، وأكمل مسيرهُ إلى مقر عمله.

في العمل، سردَ عدنان قصته لأحد زملائهِ في العمل، حينما سأله عن سبب تأخيره، وعن سبب غياب صديقه مصطفى، فاستغرب ذلك الموظف من تصرُّف عدنان، وعدم استغلالهِ لهذه الفرصة لكي يأخذ إجازة كما فعلَ مصطفى، حينها صمت عدنان قليلاً، أطرق برأسهِ، ثم أجابهُ:

– أتعلم؟ بِغضِّ النظر عن كون ما حدث اليوم بمثابة اختبارٍ لي، قمتُ من خلالهِ بقياس مدى انتمائي لمهنتي، إلا أنه قد أفادني في أمرٍ يخصُّني شخصياً.
– وما هو؟
– منذُ فترة طويلة، وأنا أتجادلُ مع صديقي مصطفى حول طبيعة ذلك المصنع المهجور الغامض، فقد علمتُ من بعضِ القاطنين في تلك المنطقة بأنه كان مصنعاً للسيارات، وقد أغلِقَ منذ سنواتٍ طويلة بسبب إفلاس الشركة القائمة عليه، أمَّا مصطفى فقد كان يصرُّ دوماً على أنه مصنعٌ للمشروبات الغازية. وبسبب أسوار ذلك المصنع المرتفعة لم يتمكن أحدٌ منا من رؤيتهِ من الدَّاخل أبداً، مما جعل جدلنا حول حقيقته لا ينتهي أبداً، فكلَّما مررنا بالقربِ منه، نظرنا إلى أسوارهِ المرتفعة والفضولُ يكادُ يقتلنا. لكنني صباح هذا اليوم تمكنتُ من رؤية المصنع من الداخل، حينما وقفتُ على أعلى غصن في تلك الشجرة، حيث ارتكزت تلك الشجرة على جدار المصنع، مما سمح لي برؤيته بوضوح، وقد رأيت بداخلهِ عشرات السيارات القديمة التي يكسوها الغبار، لقد كان مصنعاً ضخماً جداً، بدا وكأنه مدينةٌ قائمةٌ بذاتها، حتى أنني قمتُ بالتقاط صورة “سيلفي” لي هناك، وقد ظهر في خلفيتها ذلك المصنع من الدَّاخل، وسأطبعها غداً لكي أعلقها على جدار مكتبي، من أجل أن يراها مصطفى، لعلَّهُ يقتنعُ بأنني كنتُ على صواب.
– أراكَ سعيداً يا عدنان، أهذا كلُّهُ بسبب المصنع؟!
– لا يا عزيزي، القصةُ أكبرُ من المصنع.
– حسناً، وما هي؟
– إنها فلسفةٌ خاصةٌ تتعلقُ بي، وقد أثبتت اليوم نجاعتها.
– فلسفةُ ماذا؟!
– فلسفةُ النظرِ إلى المُعيقات.
– لم أفهم!
– حسناً، سأحاولُ أن أوضِّحَ لك الأمر، ولكن في البدايةِ عليك أن تعلمَ شيئاً هاماً.
– وما هو؟
– عزيزي، نحنُ من يحدِّدُ شكلَ وحجمَ المُعيقات التي تواجهنا في حياتنا ولا أحدٌ سوانا، وذلك يعتمدُ بالدرجة الأولى على نظرتنا العميقة للأمور، وفلسفتنا الحياتية غير النمطية، ومنظورنا لتلك الأشياء التي تحول المُعيقات بيننا وبينها.
– أرجو أن توضِّحَ أكثر!
– حسناً، لحظة!

أخرج عدنان هاتفهُ من جيبه، فتح تلك الصورة التي التقطها صبيحة اليوم، ثم أكمل حديثه، وهو يُرِي الصورةَ لزميلهِ:

– المُعيقات التي أتحدَّثُ عنها، لو كانت تحولُ بيننا وبين شيءٍ نحبُّهُ؛ فإننا في هذه الحالة سنراها – أي المُعيقات – صغيرةً وتافهة، في حين أنها لو كانت تحولُ بيننا وبين شيءٍ لا نرغبهُ ولا نُريدهُ؛ فسنراها حينئذٍ عظيمةً وجسيمةً وهائلة. وهذا ما حدث معنا بالفعل هذا الصباح، فاختلافُ نظرتي عن نظرةِ صديقي مصطفى حول تلك الأشياء التي تختبئُ خلف ذلك المُعيق (الشجرة)؛ جعلنا ننظرُ لها بشكلٍ مختلف. فبالنسبةِ لي، فقد رأيتُ في تلكَ الشجرةِ وسيلةً لإشباعِ فضولي حول ذلك المصنع، وحصولي على بعضِ المُتعةِ من خلال تسلُّقي لتلك الشَّجرة، أما بالنسبةِ لصديقي مصطفى، فقد رأى فيها سبباً وجيهاً لتغيبهِ عن العمل دون أن يحاسبهُ أحد، خاصَّة وأنه يمقتُ عملهُ كثيراً.
– فلسفتك جميلةٌ يا عدنان، لكن تطبيقها ليس بالأمرِ الهيِّن!

في تلك اللحظات، جاء عاملُ المطبخ بصينيةٍ صغيرةٍ، عليها كأسٌ من القهوة وبجانبهِ كأسٌ من الماء. أخذ عدنان القهوة والماء، شكرَ العامل، وأخرجَ علبة سجائرهِ من جيبه، ثم أكمل حديثه وهو يُشعلُ سيجارته الصباحية:

– لم أقل أن تطبيقها هيِّن، لكن صدِّقني بإمكاننا المحاولة.
– ربَّما!
– بل أكيد!
– سأحاولُ أن أستفيدَ منها في المستقبل.
– أتمنى ذلك، لأنك حينها سترى الكثير من الأمور بعيونٍ جديد!
– كتلك العيون التي نظرتَ بها إلى الشجرة هذا الصباح؟
– أجل، لقد كانت عيونٌ جميلةٌ ومختلفةٌ.
– لقد بدا ذلك من علامات الفرح والإحساس بالنشوة، التي ارتسمت على وجهك قبل قليل، حينما كنت تُريني تلك الصورة!

ابتسم عدنان مرةً أخرة، ارتشف بعضاً من القهوة، ثم أخرج هاتفهُ النقَّال، وفتح تلك الصورة، وأخذ يتأملها من جديد، قبل أن يُنهي كلامهُ قائلاً:

– إنها فلسفةُ النَّظرِ إلى المُعيقات يا عزيزي، والتي من خلالها يُمكننا أن نبني – من تلك المُعيقات – جسوراً توصلنا لتلكَ الأشياء التي نُحِبُّها، أو أن نُشيِّدَ أسواراً تمنعنا عن الوصول لتلك الأشياء التي “ندَّعي” أننا نُحبُّها!

،،

أبو عُمر مُصطفى
20 نيسان 2015 م

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء تعطيل منع الإعلانات مؤقتا لتستطيع تصفح الموقع - الإعلانات هي الدعم الوحيد كي نستمر