Uncategorized

البصقة – ” قصة قصيرة “

,,

قبل نحو اثنان وعشرون عاماً، وحينما كنتُ طالباً في الصَّف الخامس الابتدائي، كان في الفصل الذي أدرس فيه اثنان من الزملاء ضخام الجثة، هما “راجي وفضل”، إن لم تخني الذاكرة؛ فقد كان عمريهما أكبر من أعمار باقي الزملاء بنحو ثلاث سنوات، كونهما كانا من روَّاد نظرية “التقسيط” في التدرج من مرحلة دراسية إلى أخرى. كان هذان الزميلان يتشاركان الجلوس على نفس المقعد، وكانا بمثابة “فتوة” الفصل، حيث كانا يقومان بالكثير من أعمال العربدة والتشبيح على الطلاب، مستفيدين من الحجم الضخم لجثتيهما، وكذلك من سمعتهما السيئة آنذاك، والتي كانت تتمثل في الرسوب المتكرر، الهروب من المدرسة، التدخين، معاكسة الفتيات في المدرسة المجاورة، ناهيك عن المشاجرات المستمرة، والتي كانت تحدث بينهما من فترةٍ إلى أخرى، ولأسبابٍ تافهة. ربما الحسنة الوحيدة التي كانا يتحلَّيان بها هي مشاركتنا في رشق قوات الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة، والتي كنا نمارسها بشكلٍ شبه يومي فترة “الانتفاضة الأولى” أو ما تُسمي بانتفاضة “الحجارة”، والتي اندلعت نهاية الثمانينيات، واستمرت حتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، عقب اتفاق “أوسلو” الشهير.

ذات يوم، وأثناء دخولنا إلى الفصل عقب الطابور الصباحي، كان أحد هذان الزميلان “راجي” قد دخل الفصل قبلنا، وجلس في مقعده، ولكن في المكان المخصص للزميل الآخر. كانت المقاعد في تلك الفترة – في المدارس التابعة للأونروا – عبارة عن صناديق خشبية لها أرجل معدنية، وكانت تلك الصناديق الخشبية تحتوي على تجويفٍ جانبي، تُوضع به الحقيبة والكتب والقرطاسية وما شابه ذلك. بعد أن جلس “راجي” على مقعده، بدأ في يمارس “بعبشته”(*) المعتادة في ذلك التجويف، لعله يعثر على شيءٍ ما نسيه أحد طلاب المرحلة المسائية، والذي يشاركه نفس المقعد، وأثناء “بعبشته” عثر على ورقةٍ باليةٍ مُكوَّرة على شكل طابة، كانت بحجم حبة تفاحٍ كبيرة، وكان وزنها يوحي بأن شيئاً ما بداخلها، أخذها بسرعة، وهلَّلَ وكأنه عثر على كنزٍ ما..!! في تلك اللحظات؛ انتبه له “فضل” فاتجه إليه مسرعاً، ودار بينهما الحوار التالي:

• فضل: أعطني هذه الطابة.

• راجي: ولماذا أعطيك إياها..؟!

• فضل: أعطني إياها من دون فلسفة..!!

• راجي: أنا من وجدتها، لذا فهي من حقي.

• فضل: ولكنك وجدتها في المكان المخصص لي أنا..!!

• راجي: وماذا يعني..؟!

• فضل: يعني أنها ملكي أنا.

• راجي: أغرب عن وجهي..!!

• فضل: سآخذها رغماً عنك يا ابن (…..)..!!

في تلك اللحظات، قام “فضل” بشدِّ الطابة من يد “راجي” بقوة، فبادره راجي بلكمةٍ في وجهه، فانهال عليه فضل بلكمات متتالية، ودار بينهما شجارٌ عنيف، استُخدمت فيه الحقائب و الكتب والكراسات والمقاعد وعصي المكانس. فضل يضرب راجي بالحقيبة، فيردُّ عليه راجي بعصا المكنسة، راجي يضربُ فضل بالمقعد، فيبادله فضل الضربة بالكتب والقرطاسية، هذا يركلُ ذاك، وذاك يلكمُ هذا.

في دقائق معدودة، تحوَّل الفصل إلى كومةٍ من الخراب، مقاعد مقلوبة ومبعثرة، حقائب ممزقة، كتب ملقاة هنا وهناك، عصي مكانس مهشَّمة، نوافذ مكسورة. أما نحن، فقد كنا نقف قرب باب الفصل، نراقب هذه المعركة الطاحنة من بعيد.

بعد مضي قرابة العشرة دقائق، وبعد أن أصيب “راجي وفضل” بالتعب والإنهاك، بادر “فضل” راجي بلكمةٍ قويةٍ في ظهره، فسقط أرضاً، في تلك اللحظة انقضَّ فضل على الطابة الورقية، فأخذها وفرَّ مسرعاً تجاه زاويةٍ في الفصل، صعد فوق أحد المقاعد مبتهجاً بالنصر الذي حققه، وبدأ بفتح تلك الطابة.

كانت الطابة تتكونُ من مجموعةٍ من الأوراق الملفوفة بعضها فوق بعض، بدأ “فضل” بإزالة الورقة تلو الأخرى، كان كلما أزال ورقةً وجد أسفلها ورقةً أخرى. استمرَّ “فضل” قرابة الدقيقتان في إزالة تلك الأوراق حتى وصل إلى الورقة الأخيرة، والتي كان حجمها صغيراً بحجم حبة الكرز، حينها بدت عليه علامات الإثارة والتشويق وهو يقوم بفتحها، وما أن فتحها حتى صرخ بصوتٍ عالٍ يمتزجُ فيه الغضب مع التقزُّز، وألقاها بسرعة تجاه المكان الذي يتمدد فيه راجي، فالتقطها راجي، ونظر بها، ثم صرخ هو الآخر، وألقاها في منتصف الفصل. تقدَّم أحد الطلاب ليرى ما بها، التقطها عن الأرض، ونظر بها، ثم ألقاها وهو يصرخُ بشيءٍ من الاشمئزاز، وحينما سألناه عما وجده في تلك الورقة، أجاب بكل سخرية:

• لا يوجد بها سوى “بصقة مخاطية” صفراء وكبيرة..!!

،،

أبو عُمر مُصطفى

15 أيار 2014 م

————————–————————–—————–

(*) البعبشة: مصطلح شعبي فلسطيني، يُقصد به “البحث العبثي” والذي لا هدف له سوى البحث والفضول!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء تعطيل منع الإعلانات مؤقتا لتستطيع تصفح الموقع - الإعلانات هي الدعم الوحيد كي نستمر