Uncategorized

رِحْلَة “قصَّةٌ فلسفيةٌ قصيرة”

,,
كان الصغيرُ ينظرُ بشيءٍ من الحسرةِ والغيرةِ إلى ذلك الطفلُ الذي تحمله والدته، يتابعُ أمه وهي تطعمه وتسقيه بشراهة، بينما أمه هو لا تفعل مثلها، إنما تطعمه وتسقيه النُّزُرَ اليسير، كان ذلك خلال رحلة اللجوء من منطقتهما المدمَّرة إلى مكانٍ آمنٍ. استمرَّ الطفل يرمقُ أمه بنظرات الاستهجان، ولسان حاله يعاتبها قائلاً:
• “لديكِ من الماء والطعام ما يكفي، فلماذا تبخلين عليَّ هكذا؟! انظري لتلك الأم الحنونة كيف تطعم ابنها، وتسقيه بلا حساب!”.
استمرت رحلة المرأتان لعدة أيام، كانتا تمشيان -برفقة طفليهما- لمسافاتٍ طويلة، تحت لهيب الشمس الحارقة، وسط أكوامٍ من الركام والجثث. لم تغير أيِّ من المرأتان سياستهما، هذه تقنِّنُ ما تمنحه لطفلها قدر الإمكان، وتلك تمنحه ما يريد حينما يبكي أو يصرخ.
بعد أيامٍ من السير المُضني، وصلتا إلى قريةٍ صغيرةٍ مهجورة ومُدمَّرة. قررت إحداهن أن تذهب في اتجاه الشمال، حيث لها هناك أقرباء في إحدى القرى التي لم تصلها طاحونة الحرب الأهلية بعد. أما الأخرى؛ فأصَّرت على الذهاب جهة الغرب، حيث مخيمات اللجوء، فلا عائلة لها ولا أقرباء. افترقتا، وافترق الطفلان، وذهب كلٌّ في طريقه، نظر ذلك الطفل لتلك الأم وهي تبتعد، ثمَّ صرخ بصوتٍ عالٍ وكأنهُ يقولُ لها:
• “ابقي معنا، فربما تتعلم أمي منكِ بعض الحنان والكرم!”.
وصل ذلك الطفل برفقة أمه إلى مخيم اللجوء، وهناك وجدوا في انتظارهم خيمةً صغيرة، وقليلاً من الطعام. أما تلك الأم وطفلها؛ فقد انقطعت أخبارهما منذ أن افترقا عنهما.
بعد مضي شهران على وجود الأم وطفلها في المخيم، قررت أن تسافر إلى تلك البلدة، وتسأل عن تلك المرأة وطفلها لتطمئن عليهما، وبعد العديد من المحاولات التفاوضية مع إدارة المخيم، تمكنت من أخذ تصريحٍ للخروج من المخيم ليومٍ واحد، حملت ابنها واتجهت إلى الشمال، حيثُ تلك القرية، وهناك بدأت في السؤال عن تلك الأم وطفلها. في البداية لم تجد جواباً شافياً لسؤالها، فهي لا تعرفُ اسم تلك المرأة أو اسم عائلتها، أو حتى اسم أقربائها في القرية، ذلك أنَّ رحلة اللجوء كانت حافلة بالمخاطر الكفيلة بأن تنسيها -كما أنست رفيقتها- السؤال عن بعض التفاصيل الشخصية المتعلقة بكلٍّ منهما!
بعد محاولات مضنية من البحث والسؤال اهتدت الأم لعمدة القرية، اتجهت إلى منزله، وهناك قابلته وسألته عن تلك المرأة، بعد أن أعطته مواصفاتها ومواصفات طفلها، فأجابها العمدة بشيءٍ من الأسف:
• “قبل نحو شهرين، كان أحد الرعاة يرعى الغنم في سهلٍ قريب من القرية، وفجأةً لمح ما يشبه الجسدين ملقيان قرب صخرةٍ كبيرة، اتجه هناك وتفاجأ بجثة امرأةٍ بالغةٍ وطفلٍ صغيرٍ في حضنها، كانت تبدو على الجثتان علامات التعب الشديد والعطش والجوع، فلقد التصق جلديهما المتقشف بعظامهما، يبدو أنهما فقدا طعامهما قبل الوصول إلى القرية بمسافة كبيرة، وما أن وصلا إلى تلك المنطقة حتى فارقا الحياة!”.
عادت المرأة إلى المخيَّم والحزن يعتصر قلبها، أما طفلها؛ فقد كان ينظر إليها بشكلٍ مختلفٍ عن السَّابق، وكأنه أدركَ -بالفطرةِ- ما حلَّ بتلك المرأة وطفلها. صار الطفل يحتضن أمه بقوة، ويمسحُ بيديه الصغيرتين دموعها، ثم نظر إلى عينيها المُبتلَّتان بالدموع، وصار يتمتمُ بشفتيه ولسانُ حالهِ يقول لها:
• “أمي، سامحيني، لقد أخطأتُ في تقدير حُبُّكِ لي. لقد كنتِ بعيدة النظر، بينما أنا قاصرُ الرؤية. كنتِ تنظرين للأبعد، أما أنا؛ فلم أكن أرى أمامي سوى ذلك الطفل المحظوظ! أمي العزيزة: محبَّةٌ صغيرةٌ دائمةٌ، خيرٌ من محبَّةٍ كبيرةٍ قصيرةُ الأمد!”.
،،
أبو عُمر مُصطفى
26 شباط 2014 م
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء تعطيل منع الإعلانات مؤقتا لتستطيع تصفح الموقع - الإعلانات هي الدعم الوحيد كي نستمر